القطاع المصرفي الفلسطيني أمام آثار عام من الحرب
منذ اندلاع حرب الإبادة على قطاع غزة، وما نتج عنها من دمار لم يُُشهد له مثيل منذ الحرب العالمية الثانية، دأب الاحتلال على تضييق قبضته على الاقتصاد الفلسطيني وتعزيز التشوهات الهيكلية الناتجة عن 76 عاماًً من الاحتلال. أولى خطواته كانت قطع إمدادات المياه والكهرباء والبترول عن قطاع غزة، وإلغاء تصاريح العمل في إسرائيل، وتشديد القيود على حركة الأفراد والبضائع في الضفة الغربية من خلال عشرات الحواجز ومعيقات الحركة الإضافية، وتنفيذ مداهمات عسكرية واعتقالات شبه يومية تخللها هدم للمنازل وتدمير للبنية التحتية. طالت سياسات الاحتلال الممنهجة جميع القطاعات الاقتصادية، بما فيها القطاع المصرفي الذي شهد خلال الأشهر الماضية تكراراًً لمشهد قطع علاقة البنوك الفلسطينية مع بنوك المراسلة الإسرائيلية، مهدداًً الاستقرار المالي والقدرة على تسوية المعاملات المالية والتجارية. كما استخدم الاحتلال كل الوسائل لتضييق الخناق المالي على السلطة الفلسطينية، من زيادة الاقتطاعات من أموال المقاصة تارة ووقف تحويلها تحت ذرائع مختلفة كغطاء لنوايا توسيع الاستيطان في الضفة الغربية تارة أخرى. وبات واضحا أن الاحتلال يستخدم كل الوسائل الممكنة لتطبيق عقاب جماعي على الشعب الفلسطيني، مُُنهياًً حقبة وهم السلام الاقتصادي وآخذاًً منحنىًً سياسياًً متطرفاًً يسعى منخلاله إلى إسقاط السلطة وفرض سيطرة كاملة على الضفة الغربية.
فاقمت الحرب من التحديات التي تواجه القطاع المصرفي في فلسطين، خاصة مستويات عدم اليقين العالية وقيود الوصول للأسواق العالمية وتكاليف النقد الفائض من الشيكل الإسرائيلي. وكان لهذه التحديات أثر واضح على المؤشرات المصرفية الكلية والعمليات التشغيلية للمصارف وأرباحها ومخصصات المخاطر ونسبة القروض المتعثرة ومستويات الانكشاف لأزمة المالية العامة. هذا علاوة على الخسائر الناتجة عن تدمير معظم المنشآت المصرفية في غزة، حال أكثر من نصف المباني في قطاع غزة التي تم تدميرها ( OCHA, 2024 ). في نهاية شهر آذار 2024 ، كان في قطاع غزة 5 فروع بنوك و 7 أجهزة صراف آلي غير مُُدمرة، مقارنة ب 56 فرع ومكتب بنك و 91 جهاز صراف آلي قبل الحرب، أي أن الغالبية العظمى من أجهزة الصراف الآلي أصبحت خارج الخدمة (دراغمة، 2024 ). أشارت سلطة النقد في حينه إلى تعذر فتح فروع البنوك غير المدمرة للقيام بعمليات السحب والإيداع بسبب
القصف وانقطاع التيار الكهربائي والخطر على حياة الموظفين والعملاء، وأجهزة الصراف الآلية القليلة المتوفرة كانت تنفد من النقد قبل انتهاء دور الانتظار (سلطة النقد، 2024 ). حالياًً، جميع فروع البنوك وأجهزة الصراف الآلي مدمرة نتيجة القصف المستمر وتوسع العدوان في جنوب القطاع، أي أن القطاع المصرفي خسر معظم أصوله الثابتة في قطاع غزة، بما يشمل الخزائن الحافظة للأموال وما فيها، وبالتالي فإن البنوك تحتسب قيمة هذه الأصول كخسائر على مراكزها المالية )سكاي نيوز عربية، 2024 (. يضاف لذلك خسائر المحفظة الائتمانية في قطاع غزة، حيث قُُدر حجم المحفظة المتعثرة في قطاع غزة بنحو مليار دولار، وانخفاض قيمة الأصول واستمرار المصارف بتحمل مصاريف تشغيلية مثل رواتب وأجور الموظفين التي لم تتوقف منذ بداية الحرب.
بالإضافة للدمار والمأساة التي سببتها آلة الحرب، أدت العقوبات والقيود التي نفذها الاحتلال منذ تشرين أول 2023 إلى تحديات غير مسبوقة في توفر السيولة وارتفاع احتياجات التمويل وتفاقم المشاكل المالية التي يعاني منها الفلسطينيون في الضفة الغربية. شمل ذلك ارتفاع معدلات البطالة وتوقف دخل العمال في إسرائيل ودفع أجزاء رواتب لموظفي القطاع العام بسبب القرصنة المتزايدة على المقاصة الفلسطينية وزيادة اعتماد الحكومة الفلسطينية على الاقتراض من القطاع المصرفي. بحسب التقديرات الأولية للجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو 35 % في الربع الأول 2024 مقارنة بالربع المناظر 2023 ، مع انهيار المنظومة الاقتصادية في قطاع غزة وتراجع اقتصاد الضفة الغربية بنحو الربع )الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، 2024 أ . ارتفعت نسبة القروض المتعثرة في ظل تراجع الدخل والظروف الاقتصادية الصعبة، ومن المتوقع أن تشهد المزيد من التراجع مع نهاية عام 2024 وأن تنتقل بعض المصارف من الربحية إلى الخسارة، الأمر الذي سيؤثر سلب على جودة الأصول المصرفية ويقوض الاستقرار المالي. هذا يستدعي الموازنة بين تعزيز قدرة المصارف على التصدي للصدمات وتوفير الأدوات المالية اللازمة لمساعدة الفلسطينيين على تغطية احتياجاتهم المتزايدة للسيولة وحماية مدخراتهم ودخلهم.
منذ بداية الحرب على قطاع غزة، عملت سلطة النقد على تقديم الدعم اللازم للمصارف، والتأكد من تطبيق المعايير الدولية في مجال الاعتراف بالخسائر بالوقت المحدد والتحوط، وقامت بكافة الاختبارات الضاغطة stress testing لفحص قدرة الجهاز المصرفي على تحمل سيناريوهات مختلفة للتعامل مع تداعيات الحرب. أظهرت هذه الاختبارات أن الجهاز المصرفي في فلسطين قوي ومتين، ويتمتع بالملاءة المالية اللازمة لمواجهة التحديات المختلفة والحفاظ على نسبة كفاية رأسمال ومستويات سيولة تتوافق مع المتطلبات التنظيمية ال قُُرة م من سلطة النقد بموجب التعليمات والممارسات الفضلى )سلطة النقد، 2023 . وفي سياق متصل، وفي ضوء خروج فروع البنوك وأجهزة الصراف الآلية في القطاع عن الخدمة، والنقص الحاد في السيولة النقدية بين أيدي المواطنين وفي الأسواق في قطاع غزة، وازدياد ظاهرة الابتزاز وعصابات الدور على أجهزة الصراف الآلي، أعلنت سلطة النقد الفلسطينية في أيار 2024 إطلاق نظام المدفوعات والحوالات الفوري بين البنوك وشركات خدمات الدفع )أي براق لمساعدة المواطنين في قطاع غزة على تسديد التزاماتهم، وتنفيذ معاملاتهم المالية بوسائل إلكترونية (سلطة النقد، 2024 ب) . كما قامت سلطة النقد بالتنسيق مع مزودي خدمات الاتصالات لتنفيذ المدفوعات والحوالات في حال عدم توفر الإنترنت باستخدام أنظمة الاتصالات المتحركة SMS و USSD ، بحيث يمكن إجراء المراسلات مع البنوك وشركات خدمات الدفع لتنفيذ الحوالات. ورغم أهمية هذه المبادرة، إلا أن الانقطاعات المتكررة للاتصالات والانقطاع شبه الكامل للكهرباء وعدم توفر الوقود لتشغيل خدمات البنية التحتية الأساسية أدى إلى انقطاع متواصل في الخدمات المصرفية وتحديات في توفير حلول الدفع الرقمي البديلة.
على الرغم من مبادرات سلطة النقد وطمأنتها للمتعاملين مع القطاع المصرفي (سلطة النقد، 2024 ج) إلا أنه لا تزال هناك حاجة لتعزيز استقرار النظام المالي الفلسطيني ككل، وتعزيز ثقة المواطنين بقدرة القطاع المصرفي على الصمود والاستمرار وحماية أموالهم، وزيادة مرونة النظام المصرفي في مواجهة الأزمات المستقبلية، وتثمين جهوزية القطاع المصرفي لتقلد دور فاعل وأكثر حيوية في خطط التعافي المحتملة. لذلك، من خلال نقاش آثار الحرب على القطاع المصرفي الفلسطيني، يهدف لقاء الطاولة المستديرة هذا إلى مؤازرة الجهود وتوفير منصة للتشاور والنقاش بين أصحاب المصلحة وجهات الاختصاص لدعم جهود سلطة النقد والتفكير بمجموعة متكاملة من السياسات والتدخلات الممكنة لتعزيز قدرة القطاع المصرفي على مواجهة الأزمة الحالية وتجاوزتداعيات الحرب وتقلد دور أكثر حيوية للمساهمة في جهود التعافي الآنية من آثار الحرب وفي التنمية الاقتصادية الفلسطينية بشكل عام.